فصل: في نذر المعصية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد وكفاية المقتصد **


 كتاب النذور

-وهذا الكتاب فيه ثلاثة فصول‏:‏ الفصل الأول‏:‏ في أصناف النذور‏.‏ الفصل الثاني‏:‏ فيما يلزم من النذور وما لا يلزم وجملة أحكامها‏.‏ الثالث‏:‏ في معرفة الشيء الذي يلزم عنها وأحكامها‏.‏

 الفصل الأول في أصناف النذور‏.‏

-والنذور تنقسم أولا قسمين‏:‏ قسم من جهة اللفظ وقسم من جهة الأشياء التي تنذر‏.‏ فأما من جهة اللفظ فإنه ضربان‏:‏ مطلق وهو المخرج مخرج الخبر‏.‏ ومقيد وهو المخرج مخرج الشرط‏.‏ والمطلق على ضربين‏:‏ مصرح فيه بالشيء المنذور به، وغير مصرح، فالأول مثل قول القائل‏:‏ لله علي نذر أن أحج، والثاني مثل قوله‏:‏ لله علي نذر، دون أن يصرح بمخرج النذر، والأول ربما صرح فيه بلفظ النذور، وربما لم يصرح فيه به، مثل أن يقول‏:‏ لله علي أن أحج‏.‏ وأما المقيد المخرج مخرج الشرط فكقول القائل‏:‏ إن كان كذا فعلي لله نذر كذا وأن أفعل كذا وهذا ربما علقه بفعل من أفعال الله تعالى مثل أن يقول‏:‏ إن شفى الله مريضي فعلي نذر كذا وكذا، وربما علقه بفعل نفسه، مثل أن يقول‏:‏ إن فعلت كذا فعلي نذر كذا، وهذا هو الذي يسميه الفقهاء أيمانا، وقد تقدم من قولنا أنها ليست بأيمان، فهذه هي أصناف النذر من جهة الصيغ‏.‏ وأما أصنافه من جهة الأشياء التي من جنس المعاني المنذور بها، فإنها تنقسم إلى أربعة أقسام نذر بأشياء من جنس القرب، ونذر بأشياء من جنس المعاصي، ونذر بأشياء من جنس المكروهات، ونذر بأشياء من جنس المباحات، وهذه الأربعة تنقسم قسمين‏:‏ نذر بتركها، ونذر بفعلها‏.‏

 الفصل الثاني فيما يلزم من النذور وما لا يلزم‏.‏

-وأما ما يلزم من هذه النذور وما لا يلزم، فإنهم اتفقوا على لزوم النذر المطلق في القرب إلا ما حكى عن بعض أصحاب الشافعي أن النذر المطلق لا يجوز، وإنما اتفقوا على لزوم النذر المطلق إذا كان على وجه الرضا لا على وجه اللجاج وصرح فيه بلفظ النذر لا إذا لم يصرح، وسواء كان النذر مصرحا فيه بالشيء المنذور أو كان غير مصرح‏.‏ وكذلك أجمعوا على لزوم النذر الذي مخرجه مخرج الشرط إذا كان نذرا بقربة، وإنما صاروا لوجوب النذر لعموم قوله تعالى ‏{‏يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود‏}‏ ولأن الله تعالى قد مدح به فقال ‏{‏يوفون بالنذر‏}‏ وأخبر بوقوع العقاب بنقضه فقال ‏{‏ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله‏}‏ الآية، إلى قوله ‏{‏بما كانوا يكذبون‏}‏ ‏.‏ والسبب في اختلافهم في التصريح بلفظ النذر في النذر المطلق هو اختلافهم في هل يجب النذر بالنية واللفظ معا أو بالنية فقط‏؟‏ فمن قال بهما معا إذا قال لله علي كذا وكذا ولم يقل نذرا لم يلزمه شيء لأنه إخبار بوجوب شيء لم يوجبه الله عليه إلا أن يصرح بجهة الوجوب؛ ومن قال ليس من شرطه اللفظ قال‏:‏ ينعقد النذر وإن لم يصرح بلفظه، وهو مذهب مالك، أعني أنه إذا لم يصرح بلفظ النذر أنه يلزم، وإن كان من مذهبه أن النذر لا يلزم إلا بالنية واللفظ لكن رأى أن حذف لفظ النذر من القول غير معتبر إذ كان المقصود بالأقاويل التي مخرجها مخرج النذر النذر وإن لم يصرح فيها بلفظ النذر، وهذا مذهب الجمهور، والأول مذهب سعيد بن المسيب، ويشبه أن يكون من لم ير لزوم النذر المطلق إنما فعل ذلك من قبل أنه حمل الأمر بالوفاء على الندب؛ وكذلك من اشترط فيه الرضا، فإنما اشترطه لأن القربة إنما تكون على جهة الرضا لا على جهة اللجاج، وهو مذهب الشافعي‏.‏ وأما مالك فالنذر عنده لازم على أي جهة وقع، فهذا ما اختلفوا في لزومه من جهة اللفظ‏.‏ وأما ما اختلفوا في لزومه من جهة الأشياء المنذور بها فإن فيه من المسائل الأصول اثنتين‏.‏

-‏(‏ المسألة الأولى‏)‏ اختلفوا فيمن نذر معصية، فقال مالك والشافعي وجمهور العلماء‏:‏ ليس يلزمه في ذلك شيء‏.‏ وقال أبو حنيفة وسفيان والكوفيون‏:‏ بل هو لازم، واللازم عندهم فيه هو كفارة يمين لا فعل المعصية‏.‏ وسبب اختلافهم تعارض ظواهر الآثار في هذا الباب، وذلك أنه روي في هذا الباب حديثان أحدهما حديث عائشة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال ‏"‏من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصيه‏"‏ فظاهر هذا أنه لا يلزم النذر بالعصيان‏:‏ والحديث الثاني حديث عمران بن حصين وحديث أبي هريرة الثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال ‏"‏لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين‏"‏ وهذا نص في معنى اللزوم؛ فمن جمع بينهما في هذا قال‏:‏ الحديث الأول تضمن الإعلام بأن المعصية لا تلزم وهذا الثاني تضمن لزوم الكفارة؛ فمن رجح ظاهر حديث عائشة إذ لم يصح عنده حديث عمران وأبي هريرة قال‏:‏ ليس يلزم في المعصية شيء؛ ومن ذهب مذهب الجمع بين الحديثين أوجب في ذلك كفارة يمين‏.‏ قال أبو عمر بن عبد البر‏:‏ ضعف أهل الحديث حديث عمران وأبي هريرة قالوا‏:‏ لأن حديث أبي هريرة يدور على سليمان بن أرقم وهو متروك الحديث‏.‏ وحديث عمران بن الحصين يدور على زهير بن محمد عن أبيه وأبوه مجهول لم يرو عنه غير ابنه، وزهير أيضا عنده مناكير، ولكنه خرجه مسلم من طريق عقبة بن عامر، وقد جرت عادة المالكية أن يحتجوا لمالك في هذا المسألة بما روي ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائما في الشمس، فقال‏:‏ ما بال هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ نذر أن لا يتكلم ولا يستظل ولا يجلس ويصوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ مروه فليتكلم وليجلس وليتم صيامه‏"‏ قالوا‏:‏ فأمره أن يتم ما كان طاعة لله ويترك ما كان معصية، وليس بالظاهر أن ترك الكلام معصية، وقد أخبر الله أنه نذر مريم، وكذلك يشبه أن يكون القيام في الشمس ليس بمعصية، إلا ما يتعلق بذلك من جهة إتعاب النفس‏.‏ فإن قيل فيه معصية فبالقياس لا بالنص، فالأصل فيه أنه من المباحات‏.‏

-‏(‏ المسألة الثانية‏)‏ واختلفوا فيمن حرم على نفسه شيئا من المباحات فقال مالك‏:‏ لا يلزم ما عدا الزوجة؛ وقال أهل الظاهر‏:‏ ليس في ذلك شيء؛ وقال أبو حنيفة‏:‏ في ذلك كفارة يمين‏.‏ وسبب اختلافهم معارضة مفهوم النظر لظاهر قوله تعالى ‏{‏يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك‏}‏ وذلك أن النذر ليس هو اعتقاد خلاف الحكم الشرعي أعني من تحريم محلل أو تحليل محرم، وذلك أن التصرف في هذا إنما هو للشارع فوجب أن يكون لمكان هذا المفهوم أن من حرم على نفسه شيئا أباحه الله له بالشرع أنه لا يلزمه كما لا يلزم إن نذر تحليل شيء حرمه الشرع، وظاهر قوله تعالى ‏{‏قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم‏}‏ أثر العتب على التحريم يوجب أن تكون الكفارة تحل هذا العقد، وإن كان ذلك كذلك فهو غير لازم، والفرقة الأولى تأولت التحريم المذكور في الآية أنه كان العقد بيمين‏.‏ وقد اختلف في الشيء الذي نزلت فيه هذه الآية‏.‏ وفي كتاب مسلم أن ذلك كان في شربة عسل، وفيه عن ابن عباس أنه قال‏:‏ إذا حرم الرجل عليه امرأته فهو يمين يكفرها، وقال ‏{‏لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة‏}

 الفصل الثالث في معرفة الشيء الذي يلزم عنها وأحكامها‏.‏

-وأما اختلافهم في ماذا يلزم في نذر نذر من النذور وأحكام ذلك، فإن فيه اختلافا كثيرا، لكن نشير نحن من ذلك إلى مشهورات المسائل في ذلك، وهي التي تتعلق بأكثر ذلك بالنطق الشرعي على عادتنا في هذا الكتاب، وفي ذلك مسائل خمس‏:‏

-‏(‏ المسألة الأولى‏)‏ اختلفوا في الواجب في النذر المطلق الذي ليس يعين فيه الناذر شيئا سوى أن يقول‏:‏ لله علي نذر، فقال كثير من العلماء‏:‏ في ذلك كفارة يمين لا غير؛ وقال قوم‏:‏ بل فيه كفارة الظهار؛ وقال قوم‏:‏ أقل ما ينطلق عليه الاسم من القرب صيام يوم أو صلاة ركعتين، وإنما صار الجمهور لوجوب كفارة اليمين فيه للثابت من حديث عقبة بن عامر أنه عليه الصلاة والسلام قال ‏"‏كفارة النذر كفارة يمين‏"‏ خرجه مسلم‏.‏ وأما من قال صيام يوم أو صلاة ركعتين فإنما ذهب مذهب من يرى أن المجزئ أقل ما ينطلق عليه الاسم، وصلاة ركعتين أو صيام يوم أقل ما ينطلق عليه اسم النذر‏.‏ وأما من قال فيه كفارة الظهار فخارج عن القياس والسماع‏.‏

-‏(‏ المسألة الثانية‏)‏ اتفقوا على لزوم النذر بالمشي إلى بيت الله، أعني إذا نذر المشي راجلا‏.‏ واختلفوا إذا عجز في بعض الطريق فقال قوم‏:‏ لا شيء عليه؛ وقال قوم‏:‏ عليه‏.‏ واختلفوا في ماذا عليه على ثلاثة أقوال‏:‏ فذهب أهل المدينة إلى أن عليه أن يمشي مرة أخرى من حيث عجز، وإن شاء ركب وأجزأه وعليه دم، وهذا مروي عن علي‏.‏ وقال أهل مكة‏:‏ عليه هدي دون إعادة مشي‏.‏ وقال مالك‏:‏ عليه الأمران جميعا، يعني أنه يرجع فيمشي من حيث وجب وعليه هدي، والهدي عنده بدنة أو بقرة أو شاة إن لم يجد بقرة أو بدنة‏.‏ وسبب اختلافهم منازعة الأصول لهذه المسألة ومخالفة الأثر لها، وذلك أن من شبه العاجز إذا مشى مرة ثانية بالمتمتع والقارن من أجل أن القارن فعل ما كان عليه في سفرين في سفر واحد، وهذا فعل ما كان عليه في سفر واحد في سفرين قال‏:‏ يجب عليه هدي القارن أو المتمتع؛ ومن شبهه بسائر الأفعال التي تنوب عنها في الحج إراقة الدم قال‏:‏ فيه دم؛ ومن أخذ بالآثار الواردة في هذا الباب قال‏:‏ إذا عجز فلا شيء عليه‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ والسنن الواردة الثابتة في هذا الباب دليل على طرح المشقة وهو كما قال، واحدها حديث عقبة بن عامر الجهني قال‏:‏ نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله عز وجل فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيت لها النبي صلى الله عليه وسلم فقال ‏"‏لتمش ولتركب‏"‏ خرجه مسلم‏.‏ وحديث أنس بن مالك ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يهادي بين ابنتيه، فسأل عنه فقالوا‏:‏ نذر أن يمشي، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه، وأمره أن يركب‏"‏ وهذا أيضا ثابت‏.‏

-‏(‏ المسألة الثالثة‏)‏ اختلفوا بعد اتفاقهم على لزوم المشي في حج أو عمرة فيمن نذر أن يمشي إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى بيت المقدس يريد بذلك الصلاة فيهما، فقال مالك والشافعي‏:‏ يلزمه المشي؛ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يلزمه شيء وحيث صلى أجزأه، وكذلك عنده إن نذر الصلاة في المسجد الحرام، وإنما وجب عنده المشي بالنذر إلى المسجد الحرام لمكان الحج والعمرة‏.‏ وقال أبو يوسف صاحبه‏:‏ من نذر أن يصلي في بيت المقدس أو في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام لزمه، وإن صلى في البيت الحرام أجزأه عن ذلك، وأكثر الناس على أن النذر لما سوى هذه المساجد الثلاثة لا يلزم لقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏لا تسرج المطي إلا لثلاث، فذكر المسجد الحرام ومسجده وبيت المقدس‏"‏ وذهب بعض الناس إلى أن النذر إلى المساجد التي يرجى فيها فضل زائد واجب، واحتج في ذلك بفتوى ابن عباس لولد المرأة التي نذرت أن تمشي إلى مسجد قباء فماتت أن يمشي عنها‏.‏ وسبب اختلافهم في النذر إلى ما عدا المسجد الحرام اختلافهم في المعنى الذي إليه تسرج المطي إلى هذه الثلاث مساجد، هل ذلك لموضع صلاة الفرض فيما عدا البيت الحرام أو لموضع صلاة النفل‏؟‏ فمن قال لموضع صلاة الفرض وكان الفرض عنده لا ينذر إذ كان واجبا بالشرع قال‏:‏ النذر بالمشي إلى هذين المسجدين غير لازم؛ ومن كان عنده أن النذر قد يكون في الواجب أو أنه أيضا قد يقصد هذان المسجدان لموضع صلاة النفل لقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام‏"‏ واسم الصلاة يشمل الفرض والنفل، قال‏:‏ هو واجب؛ لكن أبو حنيفة حمل هذا الحديث على الفرض مصيرا إلى الجمع بينه وبين قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏صلاة أحدكم في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة‏"‏ وإلا وقع التضاد بين هذين الحديثين، وهذه المسألة هي أن تكون من الباب الثاني أحق من أن تكون من هذا الباب‏.‏

-‏(‏ المسألة الرابعة‏)‏ واختلفوا في الواجب على أن من نذر أن ينحر ابنه في مقام إبراهيم، فقال مالك‏:‏ ينحر جزورا فداء له؛ وقال أبو حنيفة‏:‏ ينحر شاة، وهو أيضا مروي عن ابن عباس؛ وقال بعضهم‏:‏ بل ينحر مائة من الإبل، وقال بعضهم‏:‏ يهدي ديته، وروي ذلك عن علي؛ وقال بعضهم‏:‏ بل يحج به؛ وبه قال الليث؛ وقال أبو يوسف والشافعي‏:‏ لا شيء عليه لأنه نذر معصية ولا نذر في معصية‏.‏ وسبب اختلافهم قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أعني هل ما تقرب به إبراهيم هو لازم للمسلمين أم ليس بلازم‏؟‏ فمن رأى أن ذلك شرع خص به إبراهيم قال‏:‏ لا يلزم النذر؛ ومن رأى أنه لازم لنا قال‏:‏ النذر لازم‏.‏ والخلاف في هل يلزمنا شرع من قبلنا مشهور، لكن يتطرق إلى هذا خلاف آخر، وهو أن الظاهر من هذا الفعل أنه كان خاصا بإبراهيم ولم يكن شرعا لأهل زمانه، وعلى هذا فليس ينبغي أن يختلف هل هو شرع لنا أم ليس بشرع‏؟‏ والذين قالوا إنه شرع إنما اختلفوا في الواجب في ذلك من قبل اختلافهم أيضا في هل يحمل الواجب في ذلك على الواجب إبراهيم، أم يحمل على غير ذلك من القرب الإسلامية، وذلك إما صدقة بديته، وإما حج به، وإما هدي بدنة‏.‏ وأما الذين قالوا مائة من الإبل، فذهبوا إلى حديث عبد المطلب‏.‏

-‏(‏ المسألة الخامسة‏)‏ واتفقوا على أن من نذر أن يجعل ماله كله في سبيل الله أو في سبيل من سبل البر أنه يلزمه وأنه ليس ترفعه الكفارة وذلك إذا كان نذرا على جهة الخبر لا على جهة الشرط وهو الذي يسمونه يمينا‏.‏ واختلفوا فيمن نذر ذلك على جهة الشرط مثل أن يقول‏:‏ مالي للمساكين إن فعلت كذا ففعله؛ فقال قوم‏:‏ ذلك لازم كالنذر على جهة الخبر ولا كفارة فيه وهو مذهب مالك في النذور التي صيغها هذه الصيغة، أعني أنه لا كفارة فيه؛ وقال قوم‏:‏ الواجب في ذلك كفارة يمين فقط، وهو مذهب الشافعي في النذور التي مخرجها مخرج الشرط لأنه ألحقها بحكم الأيمان؛ وأما مالك فألحقها بحكم النذور على ما تقدم من قولنا في كتاب الأيمان، والذين اعتقدوا وجوب إخراج ماله في الموضع الذي اعتقدوه اختلفوا في الواجب عليه، فقال مالك‏:‏ يخرج ثلث ماله فقط؛ وقال قوم‏:‏ بل يجب عليه إخراج جميع ماله، وبه قال إبراهيم النخعي وزفر؛ وقال أبو حنيفة‏:‏ يخرج جميع الأموال التي تجب الزكاة فيها، وقال بعضهم‏:‏ إن أخرج مثل زكاة ماله أجزأه‏.‏ وفي المسألة قول خامس‏.‏ وهو إن كان المال كثيرا أخرج خمسه وإن كان وسطا أخرج سبعه وإن كان يسيرا أخرج عشره، وحد هؤلاء الكثير بألفين، والوسط بألف، والقليل بخمسمائة، وذلك مروي عن قتادة‏.‏ والسبب في اختلافهم في هذه المسألة، أعني من قال المال كله أو ثلثه معارضة الأصل في هذا الباب للأثر، وذلك أن ما جاء في حديث أبي لبابة بن عبد المنذر حين تاب الله عليه وأراد أن يتصدق بجيع ماله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏يجزيك من ذلك الثلث‏"‏ هو نص في مذهب مالك‏.‏ وأما الأصل فيوجب أن اللازم له إنما هو جميع ماله حملا على سائر النذر، أعني أنه يجب الوفاء به على الوجه الذي قصده لكن الواجب هو استثناء هذه المسألة من هذه القاعدة، إذ قد استثناها النص، إلا أن مالكا لم يلزم في هذه المسألة أصله، وذلك أنه قال‏:‏ إن حلف أو نذر شيئا معينا لزمه وإن كان كل ماله، وكذلك يلزم عنده إن عين جزءا من ماله وهو أكثر من الثلث، وهذا مخالف لنص ما رواه في حديث أبي لبابة وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي جاء بمثل بيضة من ذهب فقال‏:‏ أصبت هذا من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءه عن يمينه ثم عن يساره ثم من خلفه، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذفه بها، فلو أصابه بها لأوجعه، وقال عليه الصلاة والسلام ‏"‏يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة ثم يقعد يتكفف الناس، خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى‏"‏ وهذا نص في أنه لا يلزم المال المعين إذا تصدق به وكان جميع ماله؛ ولعل مالكا لم تصح عنده هذه الآثار‏.‏ وأما سائر الأقاويل التي قيلت في هذه المسألة فضعاف، وبخاصة من حد في ذلك غير الثلث، وهذا القدر كاف في أصول هذا الكتاب، والله الموفق للصواب‏.‏

 كتاب الضحايا

-وهذا الكتاب في أصوله أربعة أبواب‏:‏ الباب الأول‏:‏ في حكم الضحايا ومن المخاطب بها‏.‏ الباب الثاني‏:‏ في أنواع الضحايا وصفاتها وأسنانها وعددها‏.‏ الباب الثالث‏:‏ في أحكام الذبح‏.‏ الباب الرابع‏:‏ في أحكام لحوم الضحايا‏.‏

 الباب الأول في حكم الضحايا، ومن المخاطب بها

-اختلف العلماء في الأضحية هل هي واجبة أم هي سنة‏؟‏ فذهب مالك والشافعي إلى أنها من السنن المؤكدة؛ ورخص مالك للحاج في تركها بمنى؛ ولم يفرق الشافعي في ذلك بين الحاج وغيره؛ وقال أبو حنيفة‏:‏ الضحية واجبة على المقيمين في الأمصار الموسرين، ولا تجب على المسافرين؛ وخالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد فقالا‏:‏ إنها ليست بواجبة؛ وروي عن مالك مثل قول أبي حنيفة‏.‏ وسبب اختلافهم شيئان‏:‏ أحدهما هل فعله عليه الصلاة والسلام في ذلك محمول على الوجوب أو على الندب، وذلك أنه لم يترك صلى الله عليه وسلم الضحية قط فيما روي عنه حتى في السفر على ما جاء في حديث ثوبان قال‏:‏ ‏"‏ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم أضحيته ثم قال‏:‏ يا ثوبان أصلح لحم هذه الضحية، قال‏:‏ فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة‏"‏‏.‏ والسبب الثاني اختلافهم في مفهوم الأحاديث الواردة في أحكام الضحايا، وذلك أنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام من حديث أم سلمة أنه قال ‏"‏إذا دخل العشر فأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره شيئا ولا من أظفاره‏"‏ قالوا‏:‏ فقوله‏:‏ ‏"‏إذا أراد أحدكم أن يضحي‏"‏ فيه دليل على أن الضحية ليست بواجبة‏.‏ ولما أمر عليه الصلاة والسلام لأبي بردة بإعادة أضحيته إذ ذبح قبل الصلاة فهم قوم من ذلك الوجوب، ومذهب ابن عباس أن لا وجوب‏.‏ قال عكرمة‏:‏ بعثني ابن عباس بدرهمين أشتري بهما لحما وقال‏:‏ من لقيت فقل له هذه ضحية ابن عباس وروي عن بلال أنه ضحى بديك، وكل حديث ليس بوارد في الغرض الذي يحتج فيه به فالاحتجاج به ضعيف‏.‏ واختلفوا هل يلزم الذي يريد التضحية أن لا يأخذ من العشر الأول من شعره وأظفاره، والحديث بذلك ثابت‏.‏

 الباب الثاني في أنواع الضحايا وصفاتها وأسنانها وعددها‏.‏

-وفي هذا الباب أربع مسائل مشهورة‏:‏ إحداها في تمييز الجنس‏.‏ والثانية‏:‏ في تمييز الصفات‏.‏ والثالثة‏:‏ في معرفة السن‏.‏ والرابعة‏:‏ في العدد‏.‏

-‏ (‏المسألة الأولى‏)‏ أجمع العلماء على جواز الضحايا من جميع بهيمة الأنعام، واختلفوا في الأفضل من ذلك، فذهب مالك إلى أن الأفضل في الضحايا‏:‏ الكباش ثم البقر ثم الإبل، بعكس الأمر عنده في الهدايا؛ وقد قيل عنه الإبل ثم البقر ثم الكباش؛ وذهب الشافعي إلى عكس ما ذهب إليه مالك في الضحايا‏:‏ الإبل ثم البقر ثم الكباش، وبه قال أشهب وابن شعبان‏.‏ وسبب اختلافهم معارضة القياس لدليل الفعل، وذلك أنه لم يرو عنه عليه الصلاة والسلام أنه ضحى إلا بكبش، فكان ذلك دليلا على أن الكباش في الضحايا أفضل، وذلك فيما ذكر بعض الناس وفي البخاري عن ابن عمر ما يدل ما يدل على خلاف ذلك وهو أنه قال ‏"‏كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذبح وينحر بالمصلى‏"‏ وأما القياس فلأن الضحايا قربة بحيوان فوجب أن يكون الأفضل فيها الأفضل في الهدايا، وقد احتج الشافعي لمذهبه بعموم قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا‏"‏ الحديث، فكان الواجب حمل هذا على جميع القرب بالحيوان‏.‏ وأما مالك فحمله على الهدايا فقط لئلا يعارض الفعل القول وهو الأولى‏.‏ وقد يمكن أن يكون لاختلافهم سبب آخر، وهو هل الذبح العظيم الذي فدى به إبراهيم سنة باقية إلى اليوم وإنها الأضحية، وإن ذلك معنى قوله ‏{‏وتركنا عليه في الآخرين‏}‏ فمن ذهب إلى هذا قال‏:‏ الكباش أفضل؛ ومن رأى أن ذلك ليست سنة باقية لم يكن عنده دليل على أن الكباش أفضل، مع أنه قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بالأمرين جميعا وإذا كان ذلك كذلك فالواجب المصير إلى قول الشافعي، وكلهم مجمعون على أنه لا تجوز الضحية بغير بهيمة الأنعام إلا ما حكى عن الحسن بن صالح أنه قال‏:‏ تجوز التضحية ببقرة الوحش عن سبعة، والظبي عن واحد‏.‏

-‏ (‏المسألة الثانية‏)‏ أجمع العلماء على اجتناب العرجاء البين عرجها في الضحايا والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تنقى ‏(‏العجفاء التي لا تنقى‏:‏ أي التي لا مخ في عظامها‏)‏ مصيرا لحديث البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل ماذا ينقى من الضحايا‏؟‏ فأشار بيده وقال‏:‏ ‏"‏أربع‏"‏ وكان البراء يشير بيده ويقول‏:‏ يدي أقصر من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ العرجاء البين عرجها، والعوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء التي لا تنقى‏"‏‏.‏ وكذلك أجمعوا على أن ما كان من هذه الأربع خفيفا فلا تأثير له في منع الإجزاء‏.‏ واختلفوا في موضعين‏:‏ أحدهما فيما كان من العيوب أشد من هذه المنصوص عليها مثل العمى وكسر الساق‏.‏ والثاني فيما كان مساويا لها في إفادة النقص وشينها، أعني ما كان من العيوب في الأذن والعين والذنب والضرس وغير ذلك من الأعضاء ولم يكن يسيرا‏.‏ فأما الموضع الأول، فإن الجمهور على أن ما كان أشد من هذه العيوب المنصوص عليها فهي أحرى أن تمنع الإجزاء‏.‏ وذهب أهل الظاهر إلى أنه لا تمنع الإجزاء ولا يتجنب بالجملة أكثر من هذه العيوب التي وقع النص عليها‏.‏ وسبب اختلافهم هل هذا اللفظ الوارد هو خاص أريد به الخصوص، أو خاص أريد به العموم‏؟‏ فمن قال أريد به الخصوص ولذلك أخبر بالعدد قال‏:‏ لا يمنع الإجزاء إلا هذه الأربعة فقط؛ ومن قال هو خاص أريد به العموم وذلك من النوع الذي يقع فيه التنبيه بالأدنى على الأعلى قال‏:‏ ما هو أشد من المنصوص عليها فهو أحرى أن لا يجزى‏.‏ وأما الموضع الثاني، أعني ما كان من العيوب في سائر الأعضاء مفيدا للنقص على نحو إفادة هذه العيوب المنصوص عليها له فإنهم اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال‏:‏ أحدها أنها تمنع الإجزاء كمنع المنصوص عليها، وهو المعروف من مذهب مالك في الكتب المشهورة‏.‏ والقول الثاني أنها لا تمنع الإجزاء وإن كان يستحب اجتنابها، وبه قال ابن القصار وابن الجلاب وجماعة من البغداديين من أصحاب مالك‏.‏ والقول الثالث أنها لا تمنع الإجزاء ولا يستحب تجنبها، وهو قول أهل الظاهر‏.‏ وسبب اختلافهم شيئان أحدهما اختلافهم في مفهوم الحديث المتقدم‏.‏ والثاني تعارض الآثار في هذا الباب‏.‏ أما الحديث المتقدم، فمن رآه من باب الخاص أريد به الخاص قال‏:‏ لا يمنع ما سوى الأربع مما هو مساو لها أو أكثر منها‏.‏ وأما من رآه من باب الخاص أريد به العام وهم الفقهاء، فمن كان عنده أنه من باب التبيه بالأدنى على الأعلى فقط، لا من باب التنبيه بالمساوى على المساوى قال‏:‏ يلحق بهذه الأربع ما كان أشد منها، ولا يلحق بها ما كان مساويا لها في منع الإجزاء إلا على وجه الاستحباب؛ ومن كان عنده أنه من باب التنبيه على الأمرين جميعا أعني على ما هو أشد من المنطوق به أو مساويا له قال‏:‏ تمنع العيوب الشبيهة بالمنصوص عليها الإجزاء كما يمنعه العيوب التي هي أكبر منها، فهذا هو أحد أسباب الخلاف في هذه المسألة، وهو من قبل تردد اللفظ بين أن يفهم منه المعنى الخاص أو المعنى العام، ثم إن من فهم منه العام، فأي عام هو‏؟‏ هل الذي هو أكثر من ذلك‏؟‏ أو الذي هو أكثر والمساوي معا على المشهور من مذهب مالك‏؟‏ وأما السبب الثاني فإنه ورد في هذا الباب من الأحاديث الحسان حديثان متعارضان، فذكر النسائي عن أبي بردة أنه قال‏:‏ ‏"‏يا رسول الله أكره النقص يكون في القرن والأذن، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما كرهته فدعه ولا تحرمه على غيرك‏"‏ وذكر علي بن أبي طالب قال ‏"‏أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن ولا يضحى بشرقاء ولا خرقاء ولا مدابرة ولا بتراء‏"‏ والشرقاء‏:‏ المشقوقة الأذن‏.‏ والخرقاء‏:‏ المثقوبة الأذن‏.‏ والمدابرة‏:‏ التي قطع من جنبتي أذنها من خلف‏.‏ فمن رجح حديث أبي بردة قال‏:‏ لا يتقي إلا العيوب الأربع أو ما هو أشد منها؛ ومن جمع بين الحديثين بأن حمل حديث أبي بردة على اليسير الذي هو غير بين وحديث علي على الكثير الذي هو بين ألحق بحكم المنصوص عليها ما هو مساو لها، ولذلك جرى أصحاب هذا المذهب إلى التحديد فيما يمنع الإجزاء مما يذهب من هذه الأعضاء، فاعتبر بعضهم ذهاب الثلث من الأذن والذنب، وبعضهم اعتبر الأكثر؛ وكذلك الأمر في ذهاب الأسنان وأطباء الثدي، وأما القرن فإن مالكا قال‏:‏ ليس ذهاب جزء منه عيبا إلا أن يكون يدمى فإنه عنده من باب المرض، ولا خلاف في أن المرض البين يمنع الإجزاء‏.‏ وخرج أبو داود ‏"‏أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن أعصب الأذن والقرن‏"‏ واختلفوا في الصكاء وهي التي خلقت بلا أذنين، فذهب مالك والشافعي إلى أنها لا تجوز؛ وذهب أبو حنيفة إلى أنه إذا كان خلقة جاز كالأجم ولم يختلف الجمهور أن قطع الأذن كله أو أكثره عيب، وكل هذا الاختلاف راجع إلى ما قدمناه‏.‏ واختلفوا في الأبتر؛ فقوم أجازوه لحديث جابر الجعفي عن محمد بن قرظة عن أبي سعيد الخدري أنه قال ‏"‏اشتريت كبشا لأضحي به، فأكل الذئب ذنبه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ضح به‏"‏ وجابر عند أكثر المحدثين لا يحتج به وقوم أيضا منعوه لحديث علي المتقدم‏.‏

-‏ (‏وأما المسألة الثالثة‏)‏ وهي معرفة السن المشترطة في الضحايا فإنهم أجمعوا على أنه لا يجوز الجذع من المعز بل الثني فما فوقه لقوله عليه الصلاة والسلام لأبي بردة لما أمره بالإعادة ‏"‏يجزيك، ولا يجذي جذع عن أحد غيرك‏"‏ واختلفوا في الجذع من الضأن، فالجمهور على جوازه، وقال قوم‏:‏ بل الثني من الضأن‏.‏ وسبب اختلافهم معارضة العموم للخصوص، فالخصوص هو حديث جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن‏"‏ خرجه مسلم‏.‏ والعموم هو ما جاء في حديث أبي بردة بن نيار خرجه من قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ولا تجزي جذعة عن أحد بعدك‏"‏ فمن رجح هذا العموم على الخصوص، وهو مذهب أبي محمد بن حزم في هذه المسألة لأنه زعم أن أبا الزبير مدلس عند المحدثين، والمدلس عندهم من ليس يجري العنعنة من قوله مجرى المسند لتسامحه في ذلك، وحديث أبي بردة لا مطعن فيه‏.‏ وأما من ذهب إلى بناء الخاص على العام على ما هو مشهور عند جمهور الأصوليين فإنه استثنى من ذلك العموم جذع الضأن المنصوص عليها وهو الأولى، وقد صحح هذا الحديث أبو بكر بن صفور ‏(‏هكذا بالأصل وليحرر‏)‏، وخطأ أبا محمد بن حزم فيما نسب إلى أبي الزبير في غالب ظني في قول له رد فيه على ابن حزم‏.‏

-‏ (‏وأما المسألة الرابعة‏)‏ وهي عدد ما يجزي من الضحايا عن المضحين فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال مالك‏:‏ يجوز أن يذبح الرجل الكبش أو البقرة أو البدنة مضحيا عن نفسه وعن أهل بيته الذين تلزمه نفقتهم بالشرع، وكذلك عنده الهدايا؛ وأجاز الشافعي وأبو حنيفة وجماعة أن ينحر الرجل البدنة عن سبع، وكذلك البقرة مضحيا أو مهديا، وأجمعوا على أن الكبش لا يجزي إلا عن واحد، إلا ما رواه مالك من أنه يجزي أن يذبحه الرجل عن نفسه وعن أهل بيته لا على جهة الشركة بل إذا اشتراه مفردا، وذلك لما روي عن عائشة أنها قالت ‏"‏كنا بمنى فدخل علينا بلحم بقر، فقلنا ما هو‏؟‏ فقالوا‏:‏ ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه‏"‏ وخالفه في ذلك أبو حنيفة والثوري على وجه الكراهة لا على وجه عدم الإجزاء‏.‏ وسبب اختلافهم معارضة الأصل في ذلك للقياس المبني على الأثر الوارد في الهدايا، وذلك أن الأصل هو أن لا يجزي إلا واحد عن واحد، ولذلك اتفقوا على منع الاشتراك في الضأن، وإنما قلنا‏:‏ إن الأصل هو أن لا يجزي إلا واحد عن واحد، لأن الأمر بالتضحية لا يتبعض إذ كان من كان له شرك في ضحية ليس ينطلق عليه اسم مضح إلا إن قام الدليل الشرعي على ذلك‏.‏ وأما الأثر الذي انبنى عليه القياس المعارض لهذا الأصل فما روي عن جابر أنه قال ‏"‏نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبع‏"‏ وفي بعض روايات الحديث ‏"‏سن رسول الله صلى الله عليه وسلم البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة‏"‏ فقاس الشافعي وأبو حنيفة الضحايا في ذلك على الهدايا؛ وأما مالك فرجح الأصل على القياس المبني على هذا الأثر لأنه اعتل لحديث جابر بأن ذلك كان حين صد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت، وهدي المحصر بعد ليس هو عنده واجبا وإنما هو تطوع، وهدي التطوع يجوز عنده فيه الاشتراك، ولا يجوز الاشتراك في الهدي الواجب، لكن على القول بأن الضحايا غير واجبة فقد يمكن قياسها على هذا الهدي؛ وروي عنه ابن القاسم أنه لا يجوز الاشتراك لا في هدي تطوع ولا في هدي وجوب، وهذا كأنه رد للحديث لمكان مخالفته للأصل في ذلك، وأجمعوا على أنه لا يجوز أن يشترك في النسك أكثر من سبعة‏.‏ وإن كان قد روي من حديث رافع بن خديج ومن طريق ابن عباس وغيره ‏"‏البدنة عن عشرة‏"‏‏.‏ وقال الطحاوي‏:‏ وإجماعهم على أنه لا يجوز أن يشترك في النسك أكثر من سبعة دليل على أن الآثار في ذلك غير صحيحة، وإنما صار مالك لجواز تشريك الرجل أهل بيته في أضحيته أو هدية لما رواه عن ابن شهاب أنه قال ‏"‏ما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل بيته إلا بدنة واحدة أو بقرة واحدة‏"‏ وإنما خولف مالك في الضحايا في هذا المعنى، أعني في التشريك لأن الإجماع انعقد على منع التشريك فيه في الأجانب، فوجب أن يكون الأقارب في ذلك في قياس الأجانب، وإنما فرق مالك في ذلك بين الأجانب والأقارب لقياسه الضحايا على الهدايا في الحديث الذي احتج به‏:‏ أعني حديث ان شهاب، فاختلافهم في هذه المسألة إذا رجع إلى تعارض الأقيسة في هذا الباب‏:‏ أعني إما إلحاق الأقارب بالأجانب، وإما قياس الضحايا على الهدايا‏.‏

 الباب الثالث في أحكام الذبح‏.‏

-ويتعلق بالذبح المختص بالضحايا النظر في الوقت والذبح‏.‏ أما الوقت فإنهم اختلفوا فيه في ثلاثة مواضع‏:‏ في ابتدائه وفي انتهائه وفي الليالي المتخللة له‏.‏ فأما في ابتدائه، فإنهم اتفقوا على أن الذبح قبل الصلاة لا يجوز لثبوت قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏من ذبح قبل الصلاة فإنما هي شاة لحم‏"‏ وأمره بالإعادة لمن ذبح قبل الصلاة وقوله ‏"‏أول ما نبدأ به في يومنا هذا هو أن نصلي ثم ننحر‏"‏ إلى غير ذلك من الآثار الثابتة التي في هذا المعنى‏.‏ واختلفوا فيمن ذبح قبل ذبح الإمام وبعد الصلاة، فذهب مالك إلى أنه لا يجوز لأحد ذبح أضحيته قبل ذبح الإمام؛ وقال أبو حنيفة والثوري‏:‏ يجوز الذبح بعد الصلاة وقبل ذبح الإمام‏.‏ وسبب اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب، وذلك أنه جاء في بعضها ‏"‏أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر لمن ذبح قبل الصلاة أن يعيد الذبح‏"‏، وفي بعضها ‏"‏أنه أمر لمن ذبح قبل ذبحه أن يعيد‏"‏ وخرج هذا الحديث الذي فيه هذا المعنى مسلم؛ فمن جعل ذلك موطنين اشترط ذبح الإمام في جواز الذبح؛ ومن جعل لذلك موطنا واحدا قال‏:‏ إنما يعتبر في إجزاء الذبح الصلاة فقط‏.‏ وقد اختلفت الرواية في حديث أبي بردة ابن نيار، وذلك أن في بعض رواياته ‏"‏أنه ذبح قبل الصلاة فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيد الذبح‏"‏ وفي بعضها ‏"‏أنه ذبح قبل ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بالإعادة‏"‏ وإذا كان ذلك كذلك فحمل قول الراوي أنه ذبح قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول الآخر ذبح قبل الصلاة على موطن واحد أولى، وذلك أن من ذبح قبل الصلاة فقد ذبح قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب أن يكون المؤثر في عدم الإجزاء إنما هو الذبح قبل الصلاة كما جاء في الآثار الثابتة في ذلك من حديث أنس وغيره ‏"‏أن من ذبح قبل الصلاة فليعد‏"‏ وذلك أن تأصيل هذا الحكم منه صلى الله عليه وسلم يدل بمفهوم الخطاب دلالة قوية أن الذبح بعد الصلاة يجزئ، لأنه لو كان هنالك شرط آخر مما يتعلق به إجزاء الذبح لم يسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن فرضه التبيين، ونص حديث أنس هذا قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر ‏"‏من كان ذبح قبل الصلاة فليعد‏"‏ واختلفوا من هذا الباب في فرع مسكوت عنه، وهو متى يذبح من ليس له إمام من أهل القرى‏؟‏ فقال مالك‏:‏ يتحرون ذبح أقرب الأئمة إليهم؛ وقال الشافعي‏:‏ يتحرون قدر الصلاة والخطبة ويذبحون؛ وقال أبو حنيفة‏:‏ من ذبح من هؤلاء بعد الفجر أجزأه؛ وقال قوم‏:‏ بعد طلوع الشمس؛ وكذلك اختلف أصحاب مالك في فرع آخر، وهو إذا لم يذبح الإمام في المصلى، فقال قوم‏:‏ يتحرى ذبحه بعد انصرافه؛ وقال قوم‏:‏ ليس يجب ذلك‏.‏ وأما آخر زمان الذبح فإن مالكا قال‏:‏ آخره اليوم الثالث من أيام النحر وذلك مغيب الشمس‏.‏ فالذبح عنده هو في الأيام المعلومات يوم النحر ويومان بعده، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وجماعة؛ وقال الشافعي والأوزاعي‏:‏ الأضحى أربعة يوم النحر وثلاثة أيام بعده‏.‏ وروي عن جماعة أنهم قالوا‏:‏ الأضحى يوم واحد وهو يوم النحر خاصة؛ وقد قيل الذبح إلى آخر يوم من ذي الحجة وهو شاذ لا دليل عليه، وكل هذه الأقاويل مروية عن السلف‏.‏ وسبب اختلافهم شيئان‏:‏ أحدهما اختلافهم في الأيام المعلومات ما هي في قوله تعالى ‏{‏ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام‏}‏ فقيل يوم النحر ويومان بعده وهو المشهور؛ وقيل العشر الأول من ذي الحجة‏.‏ والسبب الثاني معارضة دليل الخطاب في هذه الآية لحديث جبير بن مطعم، وذلك أنه ورد فيه عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال ‏"‏كل فجاج مكة منحر وكل أيام التشريق ذبح‏"‏ فمن قال في الأيام المعلومات إنها يوم النحر ويومان بعده في هذه الآية ورجح دليل الخطاب فيها على الحديث المذكور قال ‏"‏لا نحر إلا في هذه الأيام‏"‏ ومن رأى الجمع بين الحديث والآية وقال لا معارضة بينهما إذ الحديث اقتضى حكما زائدا على ما في الآية، مع أن الآية ليس المقصود منها تحديد أيام الذبح، والحديث المقصود منه ذلك قال‏:‏ يجوز الذبح في اليوم الرابع إذ كان باتفاق من أيام التشريق، ولا خلاف بينهم أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق وأنها ثلاثة بعد يوم النحر، إلا ما روي عن سعيد بن جبير أنه قال‏:‏ يوم النحر من أيام التشريق‏.‏ وإنما اختلفوا في الأيام المعلومات على القولين المتقدمين‏.‏ وأما من قال يوم النحر فقط فبناء على أن المعلومات هي العشر الأول قال‏:‏ وإذا كان الإجماع قد انعقد أنه لا يجوز الذبح منها إلا في اليوم العاشر وهي محل الذبح المنصوص عليها فواجب أن يكون الذبح إنما هو يوم النحر فقط‏.‏

-‏(‏وأما المسألة الثالثة‏)‏ وهي اختلافهم في الليالي التي تتخلل أيام النحر، فذهب مالك في المشهور عنه إلى أنه لا يجوز الذبح في ليالي أيام التشريق ولا النحر‏.‏ وذهب الشافعي وجماعة إلى جواز ذلك‏.‏ وسبب اختلافهم الاشتراك الذي في اسم اليوم، وذلك أنه مرة يطلقه العرب على النهار والليلة مثل قوله تعالى ‏{‏تمتعوا في داركم ثلاثة أيام‏}‏ ومرة يطلقه على الأيام دون الليالي مثل قوله تعالى ‏{‏سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما‏}‏ فمن جعل اسم اليوم يتناول الليل مع النهار في قوله تعالى ‏{‏ويذكروا اسم الله في أيام معلومات‏}‏ قال‏:‏ يجوز الذبح بالليل والنهار في هذه الأيام؛ ومن قال ليس يتناول اسم اليوم الليل في هذه الآية قال‏:‏ لا يجوز الذبح ولا النحر بالليل‏.‏ والنظر هل اسم اليوم أظهر في أحدهما من الثاني، ويشبه أن يقال إنه أظهر في النهار منه في الليل، لكن إن سلمنا أن دلالته في الآية هي على النهار فقط لم يمنع الذبح بالليل إلا بنحو ضعيف من إيجاب دليل الخطاب، وهو تعليق ضد الحكم بضد مفهوم الاسم، وهذا النوع من أنواع الخطاب هو من أضعفها حتى إنهم قالوا ما قال به أحد المتكلمين إلا الدقاق فقط إلا أن يقول قائل إن الأصل هو الحظر في الذبح، وقد ثبت جوازه بالنهار، فعلى من جوزه بالليل الدليل‏.‏ وأما الذابح فإن العلماء استحبوا أن يكون المضحي هو الذي يلي ذبح أضحيته بيده، واتفقوا على أنه يجوز أن يوكل غيره على الذبح‏.‏ واختلفوا هل تجوز الضحية إن ذبحها غيره بغير إذنه، فقيل لا يجوز، وقيل بالفرق بين أن يكون صديقا أو ولدا أو أجنبيا، أعني أنه يجوز أن كان صديقا أو ولدا، ولم يختلف المذهب فيما أحسب أنه إن كان أجنبيا أنها لا تجوز‏.‏

 الباب الرابع في أحكام لحوم الضحايا‏.‏

-واتفقوا على أن المضحي مأمور أن يأكل من لحم أضحيته ويتصدق لقوله تعالى ‏{‏فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير‏}‏ وقوله تعالى ‏{‏وأطعموا القانع والمعتر‏}‏ ولقوله صلى الله عليه وسلم في الضحايا ‏"‏كلوا وتصدقوا وادخروا‏"‏‏.‏ واختلف مذهب مالك هل يؤمر بالأكل والصدقة معا، أم هو مخير بين أن يفعل أحد الأمرين‏؟‏ أعني أن يأكل الكل أو يتصدق بالكل‏؟‏ وقال ابن المواز له أن يفعل أحد الأمرين؛ واستحب كثير من العلماء أن يقسمها أثلاثا‏:‏ ثلثا للادخار، وثلثا للصدقة، وثلثا للأكل لقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏فكلوا وتصدقوا وادخروا‏"‏ وقال عبد الوهاب في الأكل إنه ليس بواجب في المذاهب خلافا لقوم أوجبوا ذلك، وأظن أهل الظاهر يوجبون تجزئة لحوم الضحايا إلى الأقسام الثلاثة التي يتضمنها الحديث والعلماء متفقون فيما علمت أنه لا يجوز مع لحمها، واختلفوا في جلدها وشعرها وما عدا ذلك مما ينتفع به منها، فقال الجمهور‏:‏ لا يجوز يبعه؛ وقال أبو حنيفة‏:‏ يجوز بيعه بغير الدراهم والدنانير‏:‏ أي بالعروض‏.‏ وقال عطاء‏:‏ يجوز بكل شيء دراهم ودنانير وغير ذلك، وإنما فرق أبو حنيفة بين الدراهم وغيرها، لأنه رأى أن المعاوضة بالعروض هي من باب الانتفاع لإجماعهم على أنه يجوز أن ينتفع به، وهذا القدر كاف في قواعد هذا الكتاب والحمد لله‏.‏

 كتاب الذبائح

-والقول المحيط بقواعد هذا الكتاب ينحصر في خمسة أبواب‏:‏ الباب الأول‏:‏ في معرفة محل الذبح والنحر، وهو المذبوح أو المنحور‏.‏ الباب الثاني‏:‏ في معرفة الذبح والنحر‏.‏ الباب الثالث‏:‏ في معرفة الآلة التي بها يكون الذبح والنحر‏.‏ الباب الرابع‏:‏ في معرفة شروط الذكاة‏.‏ الباب الخامس‏:‏ في معرفة الذابح والناحر والأصول هي الأربعة، والشروط يمكن أن تدخل في الأربعة الأبواب والأسهل في التعليم أن يجعل بابا على حدته‏.‏

 الباب الأول في معرفة محل الذبح والنحر‏.‏

-والحيوان في اشتراط الذكاة في أكله على قسمين‏:‏ حيوان لا يحل إلا بذكاة، وحيوان يحل بغير ذكاة‏.‏ ومن هذه ما اتفقوا عليه ومنها ما اختلفوا فيه‏.‏ واتفقوا على أن الحيوان الذي يعمل فيه الذبح هو الحيوان البري ذو الدم الذي ليس بمحرم ولا منفوذ المقاتل ولا ميئوس منه بوقذ أو نطح أو ترد أو افتراس سبع أو مرض، وأن الحيوان البحري ليس يحتاج إلى ذكاة‏.‏ واختلفوا في الحيوان الذي ليس يدمي مما يجوز أكله مثل الجراد وغيره هل له ذكاة أم لا‏؟‏ وفي الحيوان المدمي الذي يكون تارة في البحر وتارة في البر مثل السلحفاة وغيره‏.‏ واختلفوا في تأثير الذكاة في الأصناف التي نص عليها في آية التحريم وفي تأثير الذكاة فيما لا يحل أكله، أعني في تحليل الانتفاع بجلودها وسلب النجاسة عنها، ففي هذا الباب إذا ست مسائل أصول‏:‏ المسألة الأولى‏:‏ في تأثير الذكاة في الأصناف الخمسة التي نص عليها في الآية إذا أدركت حية‏.‏ المسألة الثانية‏:‏ في تأثير الذكاة في الحيوان المحرم الأكل‏.‏ المسألة الثالثة‏:‏ في تأثير الذكاة في المريضة‏.‏ المسألة الرابعة‏:‏ في هل ذكاة الجنين ذكاة أمه أم لا‏؟‏ المسألة الخامسة‏:‏ هل للجراد ذكاة أم لا‏؟‏ المسألة السادسة‏:‏ هل للحيوان الذي يأوي في البر تارة وفي البحر تارة ذكاة أم لا‏؟‏‏.‏

-‏ (‏المسألة الأولى‏)‏ أما المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع فإنهم اتفقوا فيما أعلم أنه إذا لم يبلغ الخنق منها أو الوقذ منها إلى حالة لا يرجى فيها أن الذكاة عاملة فيها، أعني أنه إذا غلب على الظن أنها تعيش، وذلك بأن لا يصاب لها مقتل‏.‏ واختلفوا إذا غلب على الظن أنها تهلك من ذلك بإصابة مقتل أو غيره، فقال قوم‏:‏ تعمل الذكاة فيها، وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من قول الشافعي، وهو قول الزهري وابن عباس؛ وقال قوم‏:‏ لا تعمل الذكاة فيها؛ وعن مالك في ذلك الوجهان، ولكن الأشهر أنها لا تعمل في الميئوس منها‏:‏ وبعضهم تأول في المذهب أن الميئوس منها على ضربين ميئوسة مشكوك فيها، وميئوسة مقطوع بموتها وهي المنفوذة المقاتل على اختلاف بينهم أيضا في المقاتل قال‏:‏ فأما الميئوسة المشكوك فيها ففي المذهب فيها روايتان مشهورتان؛ وأما المنفوذة المقاتل فلا خلاف في المذهب المنقول أن الذكاة لا تعمل فيها وإن كان يتخرج فيها الجواز على وجه ضعيف‏.‏ وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم قوله تعالى ‏{‏إلا ما ذكيتم‏}‏ هل هو استثناء متصل فيخرج من الجنس بعض ما يتناوله اللفظ وهو المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع على عادة الاستثناء المتصل، أم هو استثناء منقطع لا تأثير له في الجملة المتقدمة، إذ كان هذا أيضا شأن الاستثناء المنقطع في كلام العرب، فمن قال إنه متصل قال‏:‏ الذكاة تعمل في هذه الأصناف الخمسة؛ وأما من قال الاستثناء منقطع فإنه قال‏:‏ لا تعمل الذكاة فيها‏.‏ وقد احتج من قال‏:‏ إن الاستثناء متصل بإجماعهم على أن الذكاة تعمل في المرجو منها قال‏:‏ فهذا يدل على أن الاستثناء له تأثير فيها فهو متصل‏.‏ وقد احتج أيضا من رأى أنه منقطع بأن التحريم لم يتعلق بأعيان هذه الأصناف الخمسة وهي حية وإنما يتعلق بها بعد الموت، وإذا كان ذلك كذلك فالاستثناء منقطع، وذلك أن معنى قوله تعالى ‏{‏حرمت عليكم الميتة‏}‏ إنما هو لحم الميتة، وكذلك لحم الموقوذة والمتردية والنطيحة وسائرها‏:‏ أي لحم الميتة بهذه الأسباب سوى التي تموت من تلقاء نفسها، وهي التي تسمى ميتة أكثر ذلك في كلام العرب أو بالحقيقة قالوا، فلما علم أن المقصود لم يكن تعليق التحريم بأعيان هذه وهي حية، وإنما علق بها بعد الموت، لأن لحم الحيوان محرم في حال الحياة بدليل اشتراط الذكاة فيها، وبدليل قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة‏"‏ وجب أن يكون قوله ‏{‏إلا ما ذكيتم‏}‏ استثناء منقطعا، لكن الحق في ذلك أن كيفما كان الأمر في الاستثناء فواجب أن تكون الذكاة تعمل فيها، وذلك أنه إن علقنا التحريم بهذه الأصناف في الآية بعد الموت وجب أن تدخل في التذكية من جهة ما هي حية الأصناف الخمسة وغيرها، لأنها ما دامت حية مساوية لغيرها في ذلك من الحيوان، أعني أنها تقبل الحلية من قبل التذكية التي الموت منها هو سبب الحلية، وإن قلنا إن الاستثناء متصل فلا خفاء بوجوب ذلك، ويحتمل أن يقال‏:‏ إن عموم التحريم يمكن أن يفهم منه تناول أعيان هذه الخمسة بعد الموت وقبله كالحال في الخنزير الذي لا تعمل فيه الذكاة، فيكون الاستثناء على هذا رافعا لتحريم أعيانها بالتنصيص على عمل الذكاة فيها، وإذا كان ذلك كذلك لم يلزم ما اعترض به ذلك المعترض من الاستدلال على كون الاستثناء منقطعا‏.‏ وأما من فرق بين المنفوذة المقاتل والمشكوك فيها فيحتمل أن يقال إن مذهبه أن الاستثناء منقطع وأنه إنما جاز تأثير الذكاة في المرجوة بالإجماع، وقاس المشكوكة على المرجوة‏.‏ ويحتمل أن يقال إن الاستثناء متصل، ولكن استثناء هذا الصنف من الموقوذة بالقياس، وذلك أن الذكاة إنما يجب أن تعمل في حين يقطع أنها سبب الموت، فأما إذا شك هل كان موجب الموت الذكاة أو الوقذ أو النطح أو سائرها فلا يجب أن تعمل في ذلك وهذه هي حال المنفوذة المقاتل، وله أن يقول إن المنفوذة المقاتل في حكم الميتة والذكاة من شرطها أن ترفع الحياة الثابتة لا الحياة الذاهبة‏.‏

-‏ (‏المسألة الثانية‏)‏ وأما هل تعمل الذكاة في الحيوانات المحرمات الأكل حتى تطهر بذلك جلودهم، فإنهم أيضا اختلفوا في ذلك؛ فقال مالك‏:‏ الذكاة تعمل في السباع وغيرها ما عدا الخنزير، وبه قال أبو حنيفة، إلا أنه اختلف المذهب في كون السباع فيه محرمة أو مكروهة على ما سيأتي في كتاب الأطعمة والأشربة‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ الذكاة تعمل في كل حيوان محرم الأكل ‏(‏ليس هذا مشهور مذهب الشافعي فليراجع ا هـ مصححه‏)‏ فيجوز بيع جميع أجزائه والانتفاع بها ماعدا اللحم‏.‏ وسبب الخلاف هل جميع أجزاء الحيوان تابعة للحم في الحلية والحرمة، أم ليست بتابعة للحم‏؟‏ فمن قال إنها تابعة للحم قال‏:‏ إذا لم تعمل الذكاة في اللحم لم تعمل فيما سواه؛ ومن رأى أنها ليست بتابعة قال‏:‏ وإن لم تعمل في اللحم فإنها تعمل في سائر أجزاء الحيوان، لأن الأصل أنها تعمل في جميع الأجزاء، فإذا ارتفع بالدليل المحرم للحم عملها في اللحم بقي عملها في سائر الأجزاء إلا أن يدل الدليل على ارتفاعه‏.‏

-‏ (‏المسألة الثالثة‏)‏ واختلفوا في تأثير الذكاة في البهيمة التي أشرفت على الموت من شدة المرض بعد اتفاقهم على عمل الذكاة في التي تشرف على الموت، فالجمهور على أن الذكاة تعمل فيها وهو المشهور عن مالك، وروي عنه أن الذكاة لا تعمل فيها‏.‏ وسبب الخلاف معارضة القياس للأثر‏.‏ فأما الأثر فهو ما روي ‏"‏أن أمة لكعب بن مالك كانت ترعى غنما بسلع فأصيب شاة منها فأدركتها فذكتها بحجر، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ كلوها‏"‏ خرجه البخاري ومسلم‏.‏ وأما القياس فلأن المعلوم من الذكاة أنها إنما تفعل في الحي وهذه في حكم الميت وكل من أجاز ذبحها فإنهم اتفقوا على أنه لا تعمل الذكاة فيها إلا إذا كان فيها دليل على الحياة‏.‏ واختلفوا فيما هو الدليل المعتبر في ذلك، فبعضهم اعتبر الحركة وبعضهم لم يعتبرها، والأول مذهب أبي هريرة والثاني مذهب زيد بن ثابت؛ وبعضهم اعتبر فيها ثلاث حركات‏:‏ طرف العين وتحريك الذنب والركض بالرجل، وهو مذهب سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم، وهو الذي اختاره محمد بن المواز وبعضهم شرط مع هذه التنفس، وهو مذهب ابن حبيب‏.‏

-‏ (‏المسألة الرابعة‏)‏ واختلفوا هل تعمل ذكاة الأم في جنينها أم ليس تعمل فيه‏؟‏ وإنما هو ميتة، أعني إذا خرج منها بعد ذبح الأم؛ فذهب جمهور العلماء إلى أن ذكاة الأم ذكاة لجنينها، وبه قال مالك والشافعي؛ وقال أبو حنيفة‏:‏ إن خرج حيا ذبح وأكل، وإن خرج ميتا فهو ميتة‏.‏ والذين قالوا‏:‏ إن ذكاة الأم ذكاة له بعضهم اشترط في ذلك تمام خلقته ونبات شعره، وبه قال مالك؛ وبعضهم لم يشترط ذلك، وبه قال الشافعي‏.‏ وسبب اختلافهم اختلافهم في صحة الأثر المروي في ذلك من حديث أبي سعيد الخدري مع مخالفته للأصول، وحديث أبي سعيد هو قال ‏"‏سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البقرة أو الناقة أو الشاة ينحرها أحدنا فنجد في بطنها جنينا أنأكله أو نلقه‏؟‏ فقال‏:‏ كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه‏"‏ وخرج مثله الترمذي وأبو داود عن جابر‏.‏ واختلفوا في تصحيح هذا الأثر فلم يصححه بعضهم وصححه بعضهم وأحد من صححه الترمذي‏.‏ وأما مخالفة الأصل في هذا الباب للأثر، فهو أن الجنين إذا كان حيا ثم مات بموت أمه فإنما يموت خنقا فهو من المنخنقة التي ورد النص بتحريمها، وإلى تحريمه ذهب أبو محمد بن حزم ولم يرض سند الحديث‏.‏ وأما اختلاف القائلين بحليته في اشتراطهم نبات الشعر فيه أو لا اشتراطه فالسبب فيه معارضة العموم للقياس، وذلك أن عموم قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ذكاة الجنين ذكاة أمه‏"‏ يقتضي أن لا يقع هنالك تفصيل وكونه محلا للذكاة يقتضي أن يشترط فيه الحياة قياسا على الأشياء التي تعمل فيها التذكية، والحياة لا توجد إلا فيه إذا نبت شعره وتم خلقه، يعضد هذا القياس أن هذا الشرط مروي عن ابن كعب وعن جماعة من الصحابة‏.‏ وروى معمر عن الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك قال‏:‏ كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون‏:‏ إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه‏.‏ وروى ابن المبارك عن ابن أبي ليلى قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ذكاة الجنين ذكاة أمه أشعر أو لم يشعر‏"‏ إلا أن ابن أبي ليلى سيء الحفظ عندهم، والقياس يقتضي أن تكون ذكاته في ذكاة أمه من قبل أنه جزء منها، وإذا كان ذلك كذلك، فلا معنى لاشتراط الحياة فيه، فيضعف أن يخصص العموم الوارد في ذلك بالقياس الذي تقدم ذكره عن أصحاب مالك‏.‏

-‏ (‏المسألة الخامسة‏)‏ واختلفوا في الجراد؛ فقال مالك‏:‏ لا يؤكل من غير ذكاة وذكاته عنده هو أن يقتل إما بقطع رأسه أو بغير ذلك‏.‏ وقال عامة الفقهاء‏:‏ يجوز أكل ميتته، وبه قال مطرف؛ وذكاة ما ليس بذي دم عند مالك كذكاة الجراد‏.‏ وسبب اختلافهم في ميتة الجراد هو هل يتناوله اسم الميتة أم لا في قوله تعالى ‏{‏حرمت عليكم الميتة‏}‏ وللخلاف سبب آخر وهو هل هو نثرة حوت أو حيوان بري‏.‏

-‏ (‏المسألة السادسة‏)‏ واختلفوا في الذي يتصرف في البر والبحر هل يحتاج إلى ذكاة أم لا‏؟‏ فغلب قوم فيه حكم البر وغلب آخرون حكم البحر، واعتبر آخرون حيث يكون عيشه ومتصرفه منهما غالبا‏.‏

 الباب الثاني في الذكاة‏.‏

-وفي قواعد هذا الباب مسئلتان‏:‏ المسألة الأولى‏:‏ في أنواع الذكاة المختصة بصنف صنف من بهيمة الأنعام‏.‏ الثانية‏:‏ في صفة الذكاة‏.‏

-‏ (‏المسألة الأولى‏)‏ واتفقوا على أن الذكاة في بهيمة الأنعام نحر وذبح، وأن من سنة الغنم والطير الذبح، وأن من سنة الإبل النحر، وأن البقر يجوز فيها الذبح والنحر‏.‏ واختلفوا هل يجوز النحر في الغنم والطير والذبح في الإبل‏؟‏ فذهب مالك إلى أنه لا يجوز النحر في الغنم والطير ولا الذبح في الإبل، وذلك في غير موضع الضرورة‏:‏ وقال قوم‏:‏ يجوز جميع ذلك من غير كراهة، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وجماعة من العلماء‏.‏ وقال أشهب‏:‏ إن نحر ما يذبح أو ذبح ما ينحر أكل ولكنه يكره‏.‏ وفرق ابن بكير بين الغنم والإبل فقال‏:‏ يؤكل البعير بالذبح ولا تؤكل الشاة بالنحر، ولم يختلفوا في جواز ذلك في موضع الضرورة‏.‏ وسبب اختلافهم معارضة الفعل للعموم‏.‏ فأما العموم فقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا‏"‏ وأما الفعل، فإنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر الإبل والبقر وذبح الغنم، وإنما اتفقوا على جواز ذبح البقر لقوله تعالى ‏{‏إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة‏}‏ وعلى ذبح الغنم لقوله تعالى في الكبش ‏{‏وفديناه بذبح عظيم‏}‏ ‏.‏

-‏ (‏المسألة الثانية‏)‏ وأما صفة الذكاة فإنهم اتفقوا على أن الذبح الذي يقطع فيه الودجان والمرئ والحلقوم مبيح للأكل‏.‏ واختلفوا من ذلك في مواضع‏:‏ أحدها هل الواجب قطع الأربعة كلها أو بعضها‏؟‏ وهل الواجب في المقطوع منها قطع الكل أو الأكثر‏؟‏ وهل من شرط القطع أن لا تقع الجوزة إلى جهة البدن بل إلى جهة الرأس، وهل إن قطعها من جهة العنق جاز أكلها أم لا‏؟‏ وهل إن تمادى في قطع هذه حتى قطع النخاع جاز ذلك أم لا‏؟‏ وهل من شرط الذكاة أن لا يرفع يده حتى يتم الذكاة أم لا‏؟‏ فهذه ست مسائل في عدد المقطوع وفي مقداره وفي موضعه وفي نهاية القطع وفي جهته أعني من قدام أو خلف وفي صفته‏.‏

-‏(‏أما المسألة الأولى‏)‏ فإن المشهور عن مالك في ذلك هو قطع الودجين والحلقوم وأنه لا يجزئ أقل من ذلك‏:‏ وقيل عنه بل الأربعة؛ وقيل بل الودجين فقط، ولم يختلف المذهب في أن الشرط في قطع الودجين هو استيفاؤهما‏.‏ واختلف في قطع الحلقوم على القول بوجوبه فقيل كله، وقيل أكثره‏.‏ وأما أبو حنيفة فقال‏:‏ الواجب في التذكية هو قطع ثلاثة غير معينة من الأربعة، إما الحلقوم والودجان، وإما المرئ والحلقوم وأحد الودجين، أو المرئ والودجان‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ الواجب قطع المرئ والحلقوم فقط‏.‏ وقال محمد بن الحسن‏:‏ الواجب قطع أكثر كل واحد من الأربعة‏.‏ وسبب اختلافهم أنه لم يأت في ذلك شرط منقول، وإنما جاء في ذلك أثران‏:‏ أحدهما يقتضي إنهار الدم فقط، والآخر يقتضي قطع الأوداج مع إنهار الدم؛ ففي حديث رافع بن خديج أنه قال عليه الصلاة والسلام ‏"‏ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل‏"‏ وهو حديث متفق على صحته‏.‏ وروي عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏"‏ما فرى الأوداج فكلوا ما لم يكن رض ناب أو نحر ظفر‏"‏ فظاهر الحديث الأول يقتضي قطع بعض الأوداج فقط لأن إنهار الدم يكون بذلك، وفي الثاني قطع جميع الأوداج، فالحديثان والله أعلم متفقان على قطع الودجين، إما أحدهما أو البعض من كليهما أو من واحد منهما، ولذلك وجه الجمع بين الحديثين أن يفهم من لام التعريف في قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ما فرى الأوداج‏"‏ البعض لا الكل، إذ كانت لام التعريف في كلام العرب قد تدل على البعض وأما من اشترط قطع الحلقوم والمرئ فليس له حجة من السماع وأكثر من ذلك من اشترط المرئ والحلقوم دون الودجين، ولهذا ذهب قوم إلى أن الواجب هو قطع ما وقع الإجماع على جوازه، لأن الذكاة لما كانت شرطا في التحليل ولم يكن في ذلك نص فيما يجري وجب أن يكون الواجب في ذلك ما وقع الإجماع على جوازه، إلا أن يقوم الدليل على جواز الاستثناء من ذلك وهو ضعيف، لأن ما وقع الإجماع على إجزائه ليس يلزم أن يكون شرطا في الصحة‏.‏

-‏(‏وأما المسألة الثالثة‏)‏ في موضع القطع وهي إن لم يقطع الجوزة في نصفها وخرجت إلى جهة البدن فاختلف فيه في المذهب؛ فقال مالك وابن القاسم‏:‏ لا تؤكل؛ وقال أشهب وابن عبد الحكم وابن وهب تؤكل‏.‏ وسبب الخلاف هل قطع الحلقوم شرط في الذكاة أو ليس بشرط‏؟‏ فمن قال إنه شرط قال‏:‏ لا بد أن تقطع الجوزة، لأنه إذا قطع فوق الجوزة فقد خرج الحلقوم سليما؛ ومن قال إنه ليس بشرط قال‏:‏ إن قطع فوق الجوزة جاز‏.‏

-‏(‏وأما المسألة الرابعة‏)‏ وهي إن قطع أعضاء الذكاة من ناحية العنق، فإن المذهب لا يختلف أنه لا يجوز وهو مذهب سعيد بن المسيب وابن شهاب وغيرهم وأجاز ذلك الشافعي وأبو حنيفة وإسحاق وأبو ثور، وروي ذلك عن ابن عمر وعلي وعمران بن الحصين‏.‏ وسبب اختلافهم هل تعمل الذكاة في المنفوذة المقاتل أم لا تعمل، وذلك أن القاطع لأعضاء الذكاة من القفا لا يصل إليها بالقطع إلا بعد قطع النخاع وهو مقتل من المقاتل، فترد الذكاة على حيوان قد أصيب مقتله، وقد تقدم سبب الخلاف في هذه المسألة‏.‏

-‏(‏وأما المسألة الخامسة‏)‏ وهي أن يتمادى الذابح بالذبح حتى يقطع النخاع، فإن مالكا كره ذلك إذا تمادى في القطع ولم ينو قطع النخاع من أول الأمر، لأنه إن نوى ذلك فكأنه نوى التذكية على غير الصفة الجائزة‏.‏ وقال مطرف وابن الماجشون‏:‏ لا تؤكل إن قطعها متعمدا دون جهل، وتؤكل إن قطعها ساهيا أو جاهلا‏.‏

-‏(‏وأما المسألة السادسة‏)‏ وهي هل من شرط الذكاة أن تكون في فور واحد فإن المذهب لا يختلف أن ذلك من شرط الذكاة، وأنه إذا رفع يده قبل تمام الذبح ثم أعادها، وقد تباعد ذلك أن تلك الذكاة لا تجوز‏.‏ واختلفوا إذا أعاد يده بفور ذلك وبالقرب، فقال ابن حبيب‏:‏ إن أعاد يده بالفور أكلت؛ وقال سحنون‏:‏ لا تؤكل؛ وقيل إن رفعها لمكان الاختبار هل تمت الذكاة أم لا فأعادها على الفور إن تبين له أنها لم تتم أكلت وهو أحد ما تؤول على سحنون وقد تؤول قوله على الكراهة‏.‏ قال أبو الحسن اللخمي‏:‏ ولو قيل عكس هذا لكان أجود، أعني أنه إذا رفع يده وهو يظن أنه قد أتم الذكاة فتبين له غير ذلك فأعادها أنها تؤكل، لأن الأول وقع عن شك وهذا عن اعتقاد ظنه يقينا وهذا مبني على أن من شرط الذكاة قطع كل أعضاء الذكاة، فإذا رفع يده قبل أن تستتم كانت منفوذة المقاتل غير مذكاة، فلا تؤثر فيها العودة، لأنها بمنزلة ذكاة طرأت على المنفوذة المقاتل‏.‏